نظرية الظروف الطارئة في القانون
تعد نظرية الظروف الطارئة استثناء على قاعدة العقد شريعة المتعاقدين، ولما كان العقد شريعة المتعاقدين يتعين على المتعاقدين تنفيذه في جميع ما اشتمل عليه، ولما كان الأصل في العقد أن يتمتع بقوة إلزامية، ولا يمكن للأطراف نقضه أو تعديله فان المشرع قد وضع حالات استثنائية يمكن الخروج عن هذه القاعدة العامة، حيث أجاز المشرع تعديل العقد بواسطة الإرادة الاتفاقية للأطراف متى كانت هناك ضرورة تستدعي ذلك، كما يمكن تعديل العقد بقوة القانون وذلك بتدخل المشرع في تعديل العقد بموجب قواعد قانونية، وهذا من أجل المحافظة على المصلحة العامة.
وعلى ذلك لا يجوز لأي من الطرفين نقض العقد أو تعديله بالإرادة المنفردة، فالنقض أو التعديل لا يكون الا باتفاق الطرفين أو للأسباب التي يقررها القانون، وهذا ما نصت عليه المادة 147 من القانون المدني الفلسطيني حيث جاء فيها “العقد شريعة المتعاقدين فلا يجوز نقضه أو تعديله الا باتفاق الطرفين أو للأسباب التي يقررها القانون”.
وقاعدة العقد شريعة المتعاقدين كما تلزم الطرفين المتعاقدين فإنها أيضاً تلزم القاضي، بحيث يجب عليه احترام ما تم الاتفاق عليه بين المتعاقدين والالتزام بتطبيقه بدون أي تغيير أو تبديل، فوظيفته ليست إنشاء العقود، وإنما تطبيق أحكام العقد أو تفسير مضمونه بالرجوع الي النية المشتركة للمتعاقدين.
وإذا كان هذا هو الأصل فإن هناك استثناء بحيث يجوز للقاضي تعديل العقد في بعض الاحوال التي نص عليها القانون مثل تعديل الشروط التعسفية وكذلك جواز تعديل العقد للظروف الطارئة والذي هو موضوع مقالنا لهذا اليوم.
ماهيه نظرية الظروف الطارئة
نظرية الظروف الطارئة هي حالات عامة غير مألوفة لم يكن في الوسع توقعها ولا يمكن دفعها وتجعل تنفيذ الالتزام مرهقاً بالنسبة للمدين، لذلك سنتكلم تفصيلاً حول تعريف نظرية الظروف الطارئة وشروط تطبيق نظرية الظروف الطارئة، وأخيراً تمييز نظرية الظروف الطارئة عن النظم المتشابهة لها على النحو الآتي:
تعريف نظرية الظروف الطارئة
نصت المادة 151 من القانون المدني الفلسطيني على “إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها، وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي أصبح مرهقاً للمدين يهدده بخسارة فادحة؛ جاز للمحكمة تبعاً للظروف أن ترد الالتزام المرهق الى الحد المعقول، ويقع باطلاً كل اتفاق يقضي بغير ذلك”.
من خلال نص المادة السالفة الذكر نرى بأن المشرع الفلسطيني عرف نظرية الظروف الطارئة بأنها حوادث استثنائية عامة غير متوقعة الحدوث اثناء ابرام العقد تجعل تنفيذ الالتزام مرهقاً للمدين بحيث تهدده بخسارة فادحة.
ونلاحظ بأن المشرع الفلسطيني يضع أمثلة تطبيقية للظروف الطارئة ولكن وضع أيضاً معايير موضوعية يستعين بها القاضي في تحديد ما اذا كان الحادث ظرفاً استثنائيا يوجب تطبيق النظرية أم لا، حيث نصت المادة السالفة الذكر على كون الحادث استثنائي عام غير متوقع فكل حادث توفرت فيه هذه المواصفات ستطبق نظرية الطروف الطارئة.
لقد ذهب الفقه لتعريف نظرية الظروف الطارئة ومنهم من عرفها بأنها: “حالة عامة غير مألوفة أو غير طبيعية أو واقعة مادية عامة لم تكن في حسبان المتعاقدين وقت التعاقد ولم يكن في وسعهما ترتيب حدوثها بعد التعاقد ويترتب عليهما أن يكون تنفيذ الالتزام التعاقدي مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة وإن لم يصبح مستحيلاً”.
وعرفها جانب أخر من الفقه “هي كل حادث عام لاحق على تكوين العقد وغير متوقع عند التعاقد ينجم عنه اختلال في المنافع المتولدة عن عقد يتراخى تنفيذه الي أجل أو آجال ويصبح تنفيذ المدين لالتزامه مرهق ويهدده بخسارة فادحة تخرج عن الحد المألوف”.
ومن خلال التعريفات السابقة، نستنتج بأن نظرية الظروف الطارئة تعالج حادث لا يد فيه لأي من المتعاقدين كالحرب أو كارثة طبيعية، أي انها تعالج اختلال في التوازن عند تنفيذ العقد، حيث تكون الظروف الاقتصادية قد تغيرت مما يؤدي إلى فقدان التوازن بين الالتزامات الناشئة عن العقد في ذمة طرفيه الأمر الذي يسمح للقاضي التدخل لرد الالتزام المرهق الي الحد المعقول.
شروط تطبيق نظرية الظروف الطارئة
تطبق نظرية الظروف الطارئة على العقود التي يتراخى تنفيذها كالعقود الزمنية، والعقود الفورية مؤجلة التنفيذ، ولا مجال لتطبيقها على العقود الفورية التي يتم تنفيذها فور انعقادها، كعقد البيع الذي تنفذ الالتزامات الناشئة عنه مباشرة، ولا تطبق النظرية على العقود الاحتمالية، تأسيساً على أن المتعاقد يعلم سلفاً أنه يتعاقد بعقد احتمالي مبناه فكرة المخاطرة.
نلاحظ من نص المادة 151 من القانون المدني السالفة الذكر أنه يشترط في الظرف الذي يؤدي إلى تطبيق نظرية الظروف الطارئة أن يكون استثنائي، عاماً، ليس بالإمكان توقعه أو دفعه، وأخيراً ان يجعل الالتزام مرهقاً، وسنتناول هذه الشروط بالتفصيل على النحو الآتي:
- أولاً: أن يكون استثنائياً
بما أن نظرية الظروف الطارئة استثناء على القوة الملزمة للعقد، لذا فإنه يجب أن يكون الظرف الطارئ ناشئاً عن حادث استثنائي فلا يعتد به إذا كان مألوفاً، ذلك لأن المألوف يكون محتملاً بحكم العادة او التعامل.
ويقصد بالحادث الاستثنائي هو الحادث الذي يندر وقوعه بحيث يبدو شاذاً بحسب المألوف في حياة المجتمع فلا يعول عليه الرجل العادي ولا يدخل في حسبانه.
وهناك بعض الظروف الطارئة تكون بطبيعتها استثنائية لا تحدث الا في النادر مثل اندلاع الحرب أو وقوع زلزال، وبعضها الأخر يكون غيراستثنائي لكثرة وقوعه في الحياه العملية مثل انخفاض أو ارتفاع الاسعار بمعدلات طفيفة، الا أنه قد يأتي الارتفاع أو الانخفاض في الاسعار بمعدل غير مألوف بشكل لم يعهده الناس من قبل ففي هذه الحالات يصبح الظرف الطارئ ظرفاً استثنائياً.
ولا يشترط أن يكون الظرف الاستثنائي راجعاً الى فعل الطبيعة أو نتيجة واقعة مادية بل من المتصور أن يكون راجعاً الى صدور قانون جديد كما هو الشأن بالنسبة لقانون الاصلاح الزراعي في مصر الصادر عام 1952م، حيث ترتب على صدور القانون المذكور انخفاض شديد في سعر الأراضي الزراعية، الأمر الذي جعل الالتزام بدفع الثمن في البيوع التي تمت من قبل صدوره شديد الارهاق بالمشترين.
- ثانياً: أن يكون عاماً
لا يكفي أن يكون الظرف الطارئ استثنائياً، ولكن يجب أن يكون أيضاً عاماً، أي أنه يتصف بالعمومية، لوضع ضابط لتطبيق النظرية.
ويتمثل هذا الشرط في حدوث ظروف عامة بعد ابرام العقد تمس عامة الناس ككل، بمعنى أن لا يكون الحادث خاصاً بالمدين وحده، كأن يهلك محصوله، أو يمرض، أو يفلس، فنظرية الظروف الطارئة لا تطبق إذا كان الحادث متعلقا بالمدين.
فشرط العمومية يتحدد بعدد الاشخاص الذين يتأثرون بهذه الظروف ولا يشترط فيه أن يشمل جميع البلاد بل يكفي أن يمتد اثره الى طائفة معينة من الناس كالمزارعين، أو التجار، أو الى أهل بلد معين أو اقليم معين.
وبالتالي يكفي أن يشارك المدين جمهرة من الناس في تأثره بالحادث الذي وقع، فالحريق الذي يدمر مدينة أو حي منها يمكن اعتباره ظرفاً طارئاً، وكذلك الحال بالنسبة للحادث الذي يؤثر على طائفة معينة من التجار ومن منتجي سلعة معينة يسوغ تطبيق نظرية الظروف الطارئة.
- ثالثاً: الا يكون في الامكان توقعه
إن شرط التوقع يعتبر جوهرياً في تطبيق نظرية الظروف الطارئة، بحيث يجب أن يكون غير متوقع وقت ابرام العقد فإذا كان متوقع لا يدخل في عداد الظروف الاستثنائية؛ لأن نظرية الظروف الطارئة لا يمكن إعمالها الا في حالة الاحداث التي لم تكن في حسبان المتعاقدين وقت التعاقد حيث لم يكن بوسعهما توقعها.
وتوقع الظرف هو العلم الراجح أو المحتمل بأن واقعة معينة ستحدث أو أنها لن تحدث في وقت تنفيذ العقد بحيث يكون معلوماً ان حدوث هذه الواقعة أو عدم حدوثها سيترتب عليه خلق صعوبة في تنفيذ العقد الى حد الارهاق.
وعليه لا بد أن يكون الظرف غير متوقع وغير داخل في حسبان المتعاقدين وقت ابراهم العقد، فإذا كان الظرف متوقع أو كان في الإمكان توقعه فلا يكون هناك مجالاً لتطبيق نظرية الظروف الطارئة.
والمعيار الذي يؤخذ به في تحديد كون الحادث متوقعاً أو غير متوقعاً هو معيار موضوعي أساسه الرجل المعتاد، وليس المعيار الشخصي الذاتي الذي يستند الى نفس المتعاقد الذي يتمسك بالنظرية، وكون الحادث متوقعاً أو غير متوقعاً يترك تقديره لقاضي الموضوع دون خضوعه لرقابة محكمة النقض ما دام تقديره يرتكز على أسباب سائغة.
رابعاً: أن يكون غير ممكن دفعه أو تفاديه
يجب أن يكون الظرف الطارئ غير ممكن دفعه أو تفاديه، أما اذا كان بالإمكان دفعه أو تفادي نتائجه ببذل جهد معقول فإن نظرية الظروف الطارئة لا تطبق، وإذا كان ممكن تفاديه ولم يقم المدين بتفاديه أو بتفادي نتائجه يكون هنا مقصراً ويجب أن يتحمل نتيجة تقصيره ولا يستطيع أن يحمل الدائن نتيجة تقصيره، ومعيار تحديد كون الظرف ممكن تفاديه أو دفعه هو معيار موضوعي قوامه الرجل المعتاد وليس معياراً ذاتياً قوامه ذات المتعاقد، ويترك تقدير ذلك لقاضي الموضوع دون الخضوع في تقديره لرقابة محكمة النقض لأنه يطبق واقع ولا يطبق قانون.
خامساً: أن يجعل الالتزام مرهقاً
لكي تعتبر الحادثة ظرفاً طارئاً يجب أن يؤدي هذا الظرف الى الحاق خسائر بالمتعاقد “المدين“، ولا يكفي أن يخسر المتعاقد ارباحه كلها أو بعضها، بل لا يتحقق شرط الارهاق الا اذا لحق بالمدين ضرر فعلي يتجاوز الحد المألوف، يجعل تنفيذ الالتزام مرهقاً وليس مستحيلاً.
فلا بد من تحديد درجة الحادث لنستطيع التمييز بين ما يعتبر خسارة فادحة وما لا يعتبر فإذا كانت هذه الحوادث تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلاً فلا تطبق نظرية الظروف الطارئة، وإنما نكون أمام حالة أخرى وهي القوة القاهرة.
تمييز نظرية الظروف الطارئة عن غيرها من النظم المشابهة لها
تظهر نظرية الظروف الطارئة في مرحلة تنفيذ العقد، أي أنه اثناء تنفيذ العقد قد يظهر ظروف استثنائية عامة لم يمكن توقعها أو دفعها ويصبح تنفيذ الالتزام التعاقدي مرهقاً للمدين.
وهناك أوجه اختلاف بين نظرية الظروف الطارئة والنظم المشابهة لها، وسنتناول التمييز بين نظرية الظروف الطارئة وكلاً من القوة القاهرة والاستغلال والاذعان وذلك من خلال التالي:
- الظروف الطارئة والقوة القاهرة
تنص المادة 181 من القانون المدني الفلسطيني على ما يأتي “اذا اثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب أجنبي لا يد له فيه، كالقوة القاهرة أو خطأ المضرور أو خطأ من الغير، كان غير ملزم بتعويض هذا الضرر ما لم يوجد نص أو اتفاق يقضي بغير ذلك”.
نلاحظ من نص المادة السابقة أن المشرع الفلسطيني لم يميز بين القوة القاهرة والحادث الفجائي وأعتبرهما أمراً واحداً، وهذا هو الرأي الفقهي السائد في معظم القوانين الوضعية.
ويرى فريق أخر من الفقهاء إمكانية التمييز بين الحادث الفجائي والقوة القاهرة، ذ أن الاول يتميز باستحالة توقعه والثاني يتميز باستحالة دفعه، وبالتالي لا يشترط وجود استحالة التوقع واستحالة الدفع في كل منهما وذهب راي أخر إلى محاولة التمييز بينهما على أساس أن الحادث الفجائي له صلة بعمل المدين ونشاطه مثل انفجار اطار سيارة يقودها المدين، أما القوة القاهرة فلا تتصل بعمل المدين اذ تعتبر امراً خارجياً كالزلزال مثلاً، وبني على ذلك إمكانية دفع المسئولية في حالة القوة القاهرة دون حالة الحادث الفجائي.
ويعرف الفقهاء القوة القاهرة “بأنه أمر لا يمكن توقعه أو تلافيه ويجعل تنفيذ الالتزام مستحيلاً، أو حادث مستقل عن إرادة المدين لم يكن في وسعه توقعه أو مقاومته”.
وتعد نظرية الطروف الطارئة والقوة القاهرة أكثر النظم القانونية تشابهاً لدرجة أنه يصعب مع هذا التشابه التمييز بينهما فتشترك كلاً منهما انه لا يستطيع توقعه وليس في الامكان دفعه أو مقاومته.
وأيضاً تتشابه نظرية الظروف الطارئة مع القوة القاهرة في انهما يحدثان في الفترة اللاحقة على ابرام العقد حيث إن المتفق عليه فقهاً وقضاءً أن الواقعتين لا ترتبان اثرهما القانوني على الالتزام التعاقدي اذا حدثتا قبل ابرام العقد أو في وقت ابرامه أو بعد تنفيذه.
وتختلف نظرية الظروف الطارئة عن القوة القاهرة في انها تجعل تنفيذ الالتزام مرهقاً أما القوة القاهرة فتجعل تنفيذ الالتزام مستحيلاً، كما لا يترتب على الظروف الطارئة انقضاء الالتزام أو فسخ العقد وإنما رده الى الحد المعقول، ولا يعفى المدين من تنفيذ التزامه بل تتوزع الاعباء الخارجة عن التعاقد بين الدائن والمدين في حين يترتب على القوة القاهرة انقضاء الالتزام ويتحمل الدائن ما يترتب على ذلك من نتائج.
وأخيراً لا يجوز للطرفين المتعاقدين الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة الظروف الطارئة أما في مجال القوة القاهرة فيجوز الاتفاق على تحمل المدين تبعتها.
- الظروف الطارئة والاستغلال
الاستغلال هو أمر نفسي مصحوب بعدم التعادل في الالتزامات حيث يستغل طرف ضعف المتعاقد الأخر والتعاقد معه على عقد معاوضة فيه غبن أو على عقد تبرع.
أما الغبن هو عدم تعادل التزامات كل من المتعاقدين في العقد الملزم لجانبين، والغبن لا يمكن أن يثار الا في عقود المعاوضة لذلك لا يثار في العقود الاحتمالية ولا في عقود التبرع.
تنص المادة 128 من القانون المدني الفلسطيني على ما يلي “1- اذا استغل شخص في اخر حاجة ملجئه، أو طيش بينا، أو هوى جامحاً، أو عدم خبرة، وجعله ذلك يبرم لصالحه أو لصالح غيره عقداً ينطوي عند ابرامه على عدم تناسب فاحش بين ما يلتزم بأدائه بمقتضاه، وما يجره عليه من نفع مادي، أو أدبي كان للطرف المغبون أن يطلب ابطال العقد أو بنقص التزامه، ويجوز للمتعاقد الأخر أن يتوقى ابطال العقد اذا عرض ما تراه المحكمة كافياً لرفع الغبن. 2- في عقود التبرع وليدة الاستغلال يكون للمتبرع أن يطلب ابطال العقد أو نقص قدر المتبرع به اذا اثبت ان التزاماته لا تتناسب اطلاقاً مع ثروته أو مع ما قدم المتبرع به في مثل الظروف التي تم فيها هذا التبرع. 3- يراعى في تطبيق الفقرتين السابقتين عدم الاخلال بالأحكام الخاصة بالغبن في بعض العقود.
ويظهر مما سبق أن القاسم المشترك بين الغبن والاستغلال هو عدم التعادل بين التزامات كل من المتعاقدين، الا أنه في الغبن ينظر الى عدم التعادل طبقاً لمعيار مادي محدد من قبل المشرع فإذا تحققت شروطه كان العقد مختل التوازن يستوجب الأمر إعادة التوازن في التزامات المتعاقدين، أما في الاستغلال فينظر الى الاستغلال باعتباره عيباً من عيوب الارادة ويترتب عليه ما يترتب على عيوب الارادة الاخرى من قابلية العقد للإبطال.
وتتفق كل من نظرية الظروف الطارئة ونظرية الاستغلال في أن القاضي لا يقتصر في تطبيقه لهما على تفسير العقد وإنما يجاوز ذلك إلى تعديله، كما أن الأثر الذي تحدثه كل منهما هو وقوع خلل في التوازن المادي بين الالتزامات المتقابلة للطرفين المتعاقدين مما يستدعي إعطاء القاضي سلطة مراجعة العقد الى الحد الذي يكفل إعادة التوازن الاقتصادي بين الاداءات العقدية.
“وتختلف الظروف الطارئة عن نظرية الاستغلال في أن الاستغلال يعد عيباً من عيوب الرضا فعدم التعادل في نظرية الاستغلال يرتبط بصورة مباشرة برضاء المتعاقد أما الظرف الطارئ فهو واقعة مادية أو قانونية تتحدد خارج العقد ولا ترتبط برضاء المتعاقد، كذلك لا بد أن يكون الاستغلال معاصراً لإبرام العقد ففي هذا الوقت يتم التحقق من سلامة الرضا أما الظروف الطارئة فعلى العكس تماماً اذ تذهب الغالبية من الفقه والقضاء الى ضرورة وقوعها في وقت لاحق على ابرام العقد، وأخيراً تختلف النظريتان في أن القاضي في نظرية الاستغلال يجيز للدائن المستغل في عقود المعاوضة أن يتوقى دعوى الابطال اذا عرض ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن، أما في الظروف الطارئة فلا يمكن الحديث عن هذا الأمر كون الواقعة فيها أمراً خارجاً عن ارادة كل من المتعاقدين”.
- الظروف الطارئة والاذعان
عقود الا ذعان هي العقود التي لا يتم الاتفاق على شروطها بالمنافسة والمساومة بين المتعاقدين، حيث يكون أحد المتعاقدين من القوة من الناحية الاقتصادية فيفرض إرادته على المتعاقد الأخر فيعرض عليه شروطاً لا يملك مناقشتها وعليه أن يقبلها أو يرفضها، فإذا قبلها يكون ذلك تسليماً بالشروط لا يرجع الى مشيئته، مثل التعاقد مع السكة الحديدية أو مع شركات الطيران أو شركة الكهرباء أو شركة التامين.
تنص المادة 150 من القانون المدني الفلسطيني على ما يأتي “اذا تم العقد بطريق الاذعان وكان قد تضمن شروطاً تعسفية جاز للقاضي أن يعدل هذه الشروط أو أن يعفي الطرف المذعن منها، وفقاً لما تقتضي به العدالة ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك”
وعليه فإن نظرية الظروف الطارئة تتفق مع نظرية الاذعان في أن القاضي يستطيع أن يتدخل في شروط العقد وازالة ما يتعلق بالعقد من إجحاف أو ظلم، وذلك لجعل العقد أكثر تماشياً مع فكرة العدالة.
ولكن الاختلاف بين نظرية الظروف الطارئة ونظرية الاذعان يتمثل في أن الأولى يجب أن تطرأ في وقت لاحق على ابرام العقد، أما الثانية فيعتد بها وقت ابرام العقد، ونظرية الظروف الطارئة تكون ارادة المتعاقدين حرة ولا يشوبها أي عيب، أما في عقود الاذعان لا تعد إرادة أحد المتعاقدين حرة في إنشاء العقد بسبب ما يقع عليه من ضغط اقتصادي.
سلطة القاضي في رد الالتزام المرهق الي الحد المعقول
ويلاحظ من نص المادة 151 من القانون المدني الفلسطيني سالفة الذكر أنه إذا توافرت شروط نظرية الظروف الطارئة يمكن للقاضي أن يطبقها اذا طلب المدين منه ذلك، حيث يمكنه أن يتدخل في شريعة العقد ويرد الالتزام الى الحد المعقول الذي يراه متفقاً مع العدالة وحسن النية حيث يحقق التوازن بين مصلحة المتعاقدين.
ورد الالتزام الي الحد المعقول يتمثل في تخفيف عبئه عن المدين، ويتحقق ذلك أما بتخفيف التزامه الذي اصبح مرهقاً أو بزيادة الالتزام المقابل حسب ما يراه القاضي موافقاً للظروف ويحقق العدالة ويحقق مصلحة الطرفين، وقد يرى القاضي وقف تنفيذ العقد فترة معينة بشرط الا يضر ذلك بالدائن، وسوف نبين ذلك فيما يلي:
- أولاً/ إنقاص الالتزام المرهق
قد يقوم القاضي بإنقاص الالتزام المرهق الى الحد المعقول، وذلك أما من ناحية الكم بإنقاص مقدار ما يقدمه المدين، أو من ناحية الكيف بأن يقدم المدين للدائن نفس الكمية المتفق عليها ولكن من صنف أقل جودة، وذلك حسب ما يراه القاضي من تحقيق التوازن بين المتعاقدين وتحقيق العدالة.
مثال على إنقاص الالتزام المرهق الى الحد المعقول من ناحية الكم، قد يتفق تاجر على توريد كميات كبيرة من السكر لأحد مصانع الحلوى بالتسعيرة الرسمية ثم يحدث ظرف طارئ كحرب منعت من استيراد السكر أو اغلاق بعض مصانع السكر فيترتب عليه أن تقل كميات السكر المتداولة في السوق بدرجة كبيرة ويصبح التزام التاجر بتوريد جميع الكميات المتفق عليها الى الحد الذي يستطيع التاجر القيام بتوريده.
ومن أمثلة انقاص الالتزام المرهق من ناحية الكيف، أن يتعهد شخص بتوريد كميات محددة من سلعة معينة ومن صنف متفق عليه، الا ان الحصول على هذا الصنف بالذات أصبح فيما بعد مرهقاً للمدين، وذلك نتيجة ظروف طارئة أدى الى ارتفاع سعره ارتفاعاً باهظاً ففي هذه الحالة يجوز للقاضي أن يسمح للمدين بأن يفي بنفس الكمية المتفق عليها من هذه السلعة ولكن من صنف أقل جودة لا يكون في الحصول عليه أو توريده ارهاقاً للمدين.
ثانياً/ زيادة الالتزام المقابل
قد يرى القاضي بأن زيادة الالتزام المقابل هو الذي يحقق التوازن بين المتعاقدين، وليست انقاص الالتزام، فيبقى ما يعد زيادة مألوفة في عبء الالتزام على المدين في حين يوزع الزيادة غير المألوفة على طرفي العقد وهو بذلك لم يزد التزامات الدائن بما يعوض على المدين كل العبء الناشئ عن الظرف الطارئ بل بما يحقق نوعاً من التوازن الاقتصادي بين الالتزامات التي يرتبها العقد على الطرفين.
ومثال ذلك اذا تعهد زيد بتوريد سلعة كميتها عشرة اطنان لأحمد، سعر الكيلو الواحد منها خمسة دنانير ثم ارتفعت الاسعار نتيجة لظروف طارئة، بحيث أصبح سعر الكيلو الواحد من ذات السلعة عشرة دنانير، ففي هذه الحالة تبقى الزيادة المألوفة على المدين ولا يعتد بها أما الزيادة غير المألوفة فيقوم القاضي بتوزيعها بين المتعاقدين، بمعني أن القاضي يقوم بتوزيع الزيادة وهي خمسة دنانير للكيلو الواحد بين زيد وأحمد فيصبح سعر الكيلو سبعة دنانير ونصف بدلاً من خمسة دنانير، أما لو أن الزيادة الحاصلة في الاسعار كانت ديناراً واحداً أو دينارين للكيلو الواحد بحيث يصبح سعر الكيلو ستة أو سبعة دنانير فتعد هذه الزيادة مألوفة ويتحملها المدين وحده، لأن الارتفاع العادي والمألوف في الاسعار يتحمله المدين وحده كما يتحمل الدائن انخفاض الاسعار المألوف، أما الارتفاع غير المألوف فيقسمه القاضي بين المتعاقدين حيث يتحمل كل منهما نصيبه في الخسارة غير المتوقعة.
ورد الالتزام المرهق الى الحد المعقول، سواء كان بإنقاص الالتزام المرهق أو بزيادة الالتزام المقابل، لا يكون الا بالنسبة الى ما يراد تنفيذه منه بعد وقوع الظرف الطارئ على أن يستثنى ما يكون المدين قد تقاعس عن تنفيذه بخطئه قبل ذلك، وعلى ذلك لا يدخل في الاعتبار عند إعمال نظرية الظروف الطارئة ما تم وفاؤه من الالتزام أو حل أجله وقصر المدين في ادائه قبل وقوع الظرف الطارئ.
ثالثاً/ وقف تنفيذ العقد الي حين زوال الظرف الطارئ
قد يرى القاضي أن وقف تنفيذ العقد هو الحل الأمثل لا انقاص الالتزام ولا زيادة الالتزام المقابل، ولكن وقف تنفيذ العقد الي حين زوال أثر الظرف الطارئ اذا ظهر له أن هذا الظرف مؤقت، أي أنه سوف يزول في وقت قصير، وأن الدائن لا يلحقه ضرر كبير من جراء الوقف المؤقت.
ومثال ذلك أن يتعهد مقاول بإقامة مبنى في وقت محدد وترتفع اسعار بعض مواد البناء ارتفاعاً فاحشاً نتيجة ظرف طارئ فإن قدر القاضي أن هذا الارتفاع يوشك أن يزول في وقت قصير لقرب انفتاح باب الاستيراد أو تيسير سبله فيقضي القاضي حينها بوقف تنفيذ التزام المقاول بتسليم المبنى في الموعد المتفق عليه حتى يتيسر للمقاول تنفيذ التزامه دون ارهاق شريطة الا يترتب على وقف التنفيذ ضرر جسيم يلحق صاحب المبنى.